تحقيقاتتقارير

ميليشيا الكبتاجون.. أقراص ترسم ملامح مستقبل الشبان في الجنوب السوري

تجمع أحرار حوران – حسام البرم

تبدو على “محمد الخالد”، اسم مستعار، مظاهر نشاط لم يألفها فيه من حوله، يحمل كيس الإسمنت البالغ وزنه خمسون كيلوغرام على كتفه متجاوزاً السلالم نحو الطابق الثاني في مدينته نوى بريف درعا الغربي في العمل الوحيد المتاح لصعوبته مع ورشة للبناء، لكن هالات سوداء ما زالت ترتسم تحت عينيه فيما تخفي ثيابه جسداً نحيلاً أنهكه تعاطي “الكبتاجون” منذ ما يزيد عن سنتين.

يقضي محمد أيامه بين نشاط وخمول، يفرض تلك الحالة سعيه لتأمين ألف وخمسمائة ليرة ثمن حبة الكبتاجون الصغيرة التي “تغيّر حياته” كما يقول.

خسر محمد ربع وزنه مع مقعده الدراسي في كلية الاقتصاد، كل ما حصل عليه خلال السنتين الأخيرتين ومنذ اتفاق التسوية مع قوات النظام التي ملأت حواجزها مداخل وأزقة نوى وساحاتها كان لقب “مدمن” ووجه شاحب وضعف الشهية للطعام وزيادة في الرغبة الجنسية، بعد أن استبدل رفاق الأمس وسهراتهم وأكواب الشاي الكثيرة بحبة لا يزيد حجمها عن زر في قميص، مشقوقة من المنتصف وعليها هلالان يقول إنها تشبه حياته التي انقسمت بعد تعاطيه للمخدر وبات كل قسم فيه يحارب قسمه الآخر.

حبوب الكبتاجون “ذات الهلالين”

الكبتاجون “يا مسهرني”:
استمد الكبتاجون اسمه من الاسم التجاري (captagon) لدواء نفسي أنتجته شركة ألمانية في العام 1961، وتم بيعه على شكل حبات بيضاء عليها شعار مميز يشتمل على (نصفي قمر).

ويدرج الكبتاجون الذي تحتوي أقراصه على (50 ميلي غراماً من الفينيتيلين) في عائلة الأدوية المعروفة باسم الأمفيتامينات التي تحفز الجهاز العصبي وتزيد من اليقظة والتركيز والأداء البدني والشعور بالراحة.

تشير الدراسات حول تاريخ الأمفيتامينات التي ينتمي إليها الكبتاجون أن أول ظهور له كان في نهايات القرن التاسع عشر في ألمانيا، وأنه اخترع بهدف “مكافحة الجوع”، كما استخدم في عشرينيات القرن الماضي لعلاج الصرع والانفصام، قبل أن يستخدمه الجنود اليابانيون في الحرب العالمية لمقاومة النعاس لينتشر في دول العالم، ثم دخل عالم الرياضة لزيادة القدرة البدنية كمنشط قبل أن تدرجه أمريكا 1981 ومنظمة الصحة العالمية 1986 كمادة خاضعة للرقابة ما يمنع إنتاجه وتعاطيه لما يسببه من إدمان.

ومن خاصية عدم النوم انتشر في البلدان العربية، خاصة مع سائقي الحافلات وسيارات الشحن والنقل البري عبر الحدود يساعدهم على البقاء متيقظين خلال عملهم المجهد. وخلال سنوات الثورة السورية كان تعاطيه وتوزيعه على المقاتلين جزء من الحرب بسبب المعارك المستمرة من جهة وما يمنحه من شعور بالراحة وعدم الخوف والإحساس بالألم.

ويطلق عليه السوريون وصف “يا مسهرني” وهي ليست عبارة جديدة إلا أن متعاطيه يفهمونها كـ “شيفرة” تدل على حاجتهم للكبتاجون، ولصعوبة نطق الاسم، خاصة أن معظم متعاطيه سابقاً من الأشخاص غير المتعلمين.

الكبتاجون يرسم خارطة درعا والقنيطرة بعد التسويات:
أحكمت الفرقة الرابعة التابعة للنظام السوري وميليشيات حزب الله والأمن العسكري في درعا قبضتهم على مناطق درعا كافة منذ آب/أغسطس 2018، ضمن اتفاقيات تسوية خرج على إثرها قسم من الرافضين للمصالحة نحو إدلب شمالي سوريا.

ويوضح فريق التحقيق مناطق الانتشار الأوسع لحبوب الكبتاجون المخدّرة وأماكن تصنيعها في المنطقة.

إذ تسيطر على محافظة القنيطرة مجموعات محلية تتبع لحزب الله اللبناني مع حضور لعناصر لبنانية من الحزب، إضافة للجان شعبية محلية وحواجز للأمنين العسكري والجوي التابعين للنظام.

أما في ريف درعا الغربي والذي يشمل مناطق غرب الأوتوستراد الدولي “دمشق – عمّان” فتخضع لعناصر الفرقة الرابعة والفرقة الخامسة المواليتين لإيران، بينما تخضع منطقة طفس لسيطرة فصائل المعارضة التي قبلت بالتسوية وتعرف باسم اللجنة المركزية للمنطقة الغربية، ويعملون بضمانة روسيّة.

وتسيطر الأفرع الأمنية على مدينة درعا باستثناء قسمها الجنوبي الذي يخضع لفصائل المعارضة التي قبلت بالتسوية تحت مسمى “خلية الأزمة في مدينة درعا”.

ويخضع ريف درعا الشرقي وصولاً لمعبر نصيب مع المملكة الأردنية لمجموعات تابعة للأمن العسكري وحزب الله اللبناني الذي يسيطر أيضاً عبر مجموعات تتبع له على منطقة اللجاة، وتضم قواعد عسكرية لها في المنطقة.

ومن خلال تتبّع مصادر الترويج للكبتاجون وأماكن تصنيعه وجد “تجمع أحرار حوران” أن معظمها تقع في مناطق سيطرة النظام السوري.

وتجمع عينة الاستطلاع على أن تعاطيهم للكبتاجون بدأ بالتوسع مع سيطرة هذه المجموعات على المنطقة لأسباب أجملوها بتوافر الكبتاجون في الأسواق وغياب المساءلة القانونية، مشاعر اليأس والإحباط التي سيطرت على السكان بعد التسويات، الخوف من الملاحقات الأمنية التي تطال المدنيين، غياب فرص العمل وتراجع المستوى الاقتصادي في المنطقة، إضافة لضعف التعليم وغيابه عن بعض المناطق.

وتمثل درعا وبلداتها الخط الواصل بين دول الخليج، التي يكثر فيها تعاطي الحبوب المخدّرة، ومناطق نفوذ حزب الله، ويقول د. نواف الصفدي، وهو رئيس منظمة سورية الديمقراطية 33 في فرنسا، حاصل على الدكتوراه في الصيدلة وعلم السموم، إن انتشار حبوب الكبتاجون ومواد مخدّرة أخرى يستهدف الفئة الشابة في محافظة درعا وفق خطة ممنهجة لإخضاعها وتحويل شبانها إلى مدمنين، وذلك للاستفادة منهم وزجّهم في صفوف القتال ضد مناطق الفصائل المعارضة في الشمال السوري، كذلك تمثّل هذه التجارة تمويلاً للميليشيات بعد العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام السوري والحزب وحاجتهم لمصادر تمويل جديدة تمثل تجارتا المخدرات والآثار أحد أهم أركانها.

ويرجع “الصفدي” السبب في انتشار الكبتاجون أيضًا للغياب شبه التام لمؤسسات النظام والأمن لا بل والمساهمة في الانتشار، واعتبر الجهات المصنعة “حزب الله اللبناني” المنطقة سوقًا جديدًا لتصريف منتجاتها محليًا، مع غياب أشكال المنافسة كما يحصل في المحافظات الساحلية وحمص، حيث تتنافس قوات الدفاع الوطني المحلية مع الحزب بقيادة شخصيات نافذة من أبناء المنطقة في إطار الحصول على مكاسب مادية.

أعيش عبداً لحبّة:
لم يدم نشاط “محمد الخالد” أكثر من اثنتي عشرة ساعة ليعود إلى خموله، يسير متثاقلاً إلى الصيدلية التي يشتري منها حبوب الكبتاجون “على عينك يا تاجر”.

دفع النقود التي جناها من عمله ثمنًا لحبتي كبتاجون، تناول إحداها دون ماء على عجل ولف الأخرى بورقة “سلفان”، اتكأ على حائط قريب يمسك رأسه بيديه.

ربع ساعة كانت كفيلة بعودة “الحياة” إلى وجنتيه الصفراوين ليبدأ بأحاديث طويلة وهو يدخن بنهم متناسيًا صوت معدته الذي “يقرقر” جوعًا.

يروي “الخالد” لتجمع أحرار حوران أنه كان من المتفوقين في الثانوية العامة رغم وجوده في منطقة وصفها بـ “الصفيح الساخن” نظرًا للمعارك المستمرة فيها والقصف الذي تعرضت له خلال سبع سنوات قبل التسوية، وإنه نجح في دخول الكلية التي يحبها قبل أن يهجرها إلى الأبد.

يقول “خسرت كل شيء، لم أجد من يساعدني ولا يمكنني إبلاغ عائلتي بما حدث، كذلك لا يتوفر أي مركز لعلاج الإدمان في مدينتي وعليّ التوجه إلى مركز مدينة درعا، حيث سأخضع لتحقيقات مكثّفة وربما الاعتقال، وفي أحسن الأحوال أصبح عنصر في واحدة من الميليشيات”.

ويضيف “لا يمكنني التوقف عن تناول الكبتاجون، إلا أنني أقنن في استخدامها نظراً لظروفي المادية، حصتي حبة كل يومين، لكن نصف النهار الذي أقضيه بعد تناولها يمنحني شعوراً بالنشوة، أشعر أني ملك هذه المدينة”.

يدفع “الخالد” نصف راتب موظف حكومي للحصول على حبّات من الكبتاجون، يتجاوز ذلك المبلغ راتب موظف كامل عند آخرين من أصدقائه، ويبلغ سعر حبة الكبتاجون نحو ألف وخمسمائة ليرة سورية حاليًا.

يتركنا الخالد عند باب بيته دون أن يودعنا، يقول إنه سيبقى “عبداً للحبّة” وهو يرمي حصاة كان يلاعبها بين يده طوال الطريق ليخفف من رعشتها.

واستطاع تجمع أحرار حوران من رصد عدد من الصيدليات التي تقوم ببيع حبوب الكبتاجون والأدوية المخدّرة، وتمكن من  تسجيل عملية شراء من إحدى الصيدليات في ريف درعا الشرقي بطريقة سرية حرصًا على أمن المصوّر، ولم يهمس الصيدلي بكلمة بل فتح درجه وتناول الحبوب وأخذ النقود دون تردّد، متجاهلاً منع القانون السوري لبيع الكبتاجون وفق قانون المخدرات السوري الصادر بالعام 1993 ومنع بيع الحبوب المخدرة المسببة للإدمان دون وصفة طبية.

ميليشيات الكبتاجون:
بحث فريق التحقيق عن المروّجين للكبتاجون في محافظتي درعا والقنيطرة، تتبدل النسبة بين العسكريين والمدنيين، وتبعاً للفئة العمرية وجد أن أكثر المروّجين من الشباب المتعاطين، أما التجار فهم من العسكريين أو المرتبطين بالميليشيات.

ويقول د. نواف الصفدي، إن “المنطقة يجري تحويلها لما يشبه مناطق في الجنوب اللبناني يسيطر عليها حزب الله وتقوم بزراعة الحشيش والمارجوانا،  ويشبه ذلك بالأرياف الفقيرة في أمريكا الجنوبية من خلال توريط وربط كل أهل المنطقة بالاقتصاد والعصابات والحرب بالوكالة كما في الحالة الكولومبية مع القوات الشيوعية التي تعتمد على اقتصاد المخدرات لتمويل حربها”.

أهم التجار و ارتباطاتهم:
ي.خ، من خان أرنبة في ريف القنيطرة، قائد لمجموعة عسكرية محلية تتبع لقوات الدفاع الوطني للنظام السوري، ويرتبط بشكل مباشر مع قادة من حزب الله اللبناني الذي يزور مقره بشكل دوري من أجل التنسيق العسكري ومتابعة مصالحهم، ويسيطر “ي.خ” على سوق توزيع الحبوب في المنطقة ويحظى بدعم لخوض اشتباكات عديدة مع اللجان الشعبية للحفاظ على تجارته.

ف.ع، من مدينة نوى في ريف درعا، يسيطر على مناطق واسعة، وذلك بعد إخراجه من السجن بتهم تتعلق بتجارة المواد المخدرة قبل التسوية بعدة أشهر ليعود إلى ريف درعا الغربي ويعمل تحت مظلة حزب الله اللبناني.

ويقول متعاطون وأبناء من المنطقة إن بيت “ف.ع” مكان لبيع المواد المخدرة بشكل علني، كما يشرف هو نفسه على توزيع الكبتاجون وغيره من المواد المخدرة لتجار الجملة في المناطق المجاورة.

أ.ض، من بلدة ابطع في ريف درعا الأوسط، يعمل بشكل مباشر مع المخابرات الجوية التابعة لنظام الأسد، ويقوم بتوزيع المواد المخدرة على القرى البلدات بطول طريق دمشق درعا، اختطف وقتل في نيسان 2020، وحصل تجمع أحرار حوران على فيديو مسرب من “هاتفه المحمول” يؤكد ارتباطه بحزب الله اللبناني.

م.م، من مدينة درعا، يعمل في تجارة الكبتاجون، ويشرف على التصنيع وتوريد هذه الكميات إلى خارج سوريا عبر الحدود الأردنية، بالتعاون مع القيادي وسيم اعمر المسالمة، أحد العاملين في مؤسسة البستان الخيرية سابقًا التي تعود ملكيتها إلى رامي مخلوف، إضافة إلى أنه قائد قوات درع الوطن، لواء 313 الشيعي والتابع للحرس الثوري الإيراني.

يضم أحد المواقع التي يديرها في مكب النفايات مكبساً لصناعة الكبتاجون ومستودعات للتخزين، ويتم التهريب عبر أنفاق موجودة في المكان إلى الأراضي الأردنية.

م.ر، من منطقة اللجاة في ريف درعا الشمالي الشرقي، يسيطر على المنطقة التي ينتمي لها بتجارة الحبوب المخدّرة، يرتبط بحزب الله اللبناني عبر ابنه “ح.ر” الذي يقود مجموعة تنفذ عمليات لوجستية تتبع للحزب، ويتولى عمليات النقل ضمن الريف الشرقي باتجاه الحدود ويلعب دوراً مهماً في تأمين طريق الشحنات التي تصل إلى الحدود الأردنية.

توضح تبعية التجار لحزب الله اللبناني والفرقة الرابعة تحكم هذه الميليشيات بالتصنيع والتوزيع والتهريب داخل وخارج الحدود السورية، وتضم المنطقة تجاراً للمفرّق، غالبًا ما يكونون من أبناء البلدات والقرى يتبعون لهم.

طوق من الكبتاجون:
رصد تجمع أحرار حوران ثلاث مسارات لدخول الكبتاجون وخروجه عبر حزب الله من وإلى الجنوب السوري.

يبدأ المسار الأول من نقطة المصنع، المنفذ السوري اللبناني الرسمي، إذ تقوم مجموعات تابعة لحزب اله بنقل الكبتاجون من بلدة عيتا الفخار في لبنان عبر طرق ترابية بجانب نقطة المصنع وصولاً إلى بلدة جديدة يابوس داخل الأراضي السورية، ليتم نقلها إلى نادي الرماية والفروسية في بلدة الديماس التابع للفرقة الرابعة والحرس الجمهوري ثم إلى الصبورة ثم سعسع ثم خان أرنبة في القنيطرة ثم إلى ريف درعا الغربي حتى تل شهاب وخراب الشحم.

بينما يمر المسار الثاني من مدينة القصير في ريف حمص، أكبر قواعد حزب الله في سوريا، ليصل إلى الساحل السوري.

وينقسم المسار الثالث إلى طريقين يبدآن من سهل البقاع في الجنوب اللبناني، يتفرّع بعدها عند نقطة فليطة إلى عسال الورد – رنكوس – عدرا العمالية – الضمير – حران العواميد – المطلة – المسمية – قاعدة كريم الشمالي في منطقة اللجاة.

أو من فليطة باتجاه يبرود – جيرود – الرحيبة – الضمير – حران العواميد – المطلة – دير علي – قاعدة تل الحارّة في درعا الغربي – نوى – المزيريب – خراب الشحم.

وجود المكابس ساهم في تقليل الحاجة لنقل الحبوب المصنّعة، إذ يتم نقل المواد الأولية للتصنيع تحت إشراف عناصر حزب الله اللبناني ومليشيات إيرانية بشكل مباشر وحصري.

البيع بمهمة أمنيّة:
تتبعنا مسار حبوب الكبتاجون بعد دخولها من وإلى الجنوب السوري لتحديد آليات التوزيع والتي تبين اعتمادها بشكل أساسي على شبكة من المقاتلين يتبعون للجهة المسيطرة عسكريًا في كل منطقة، إضافة لمتعاونين مدنيين.

معظم عمليات التوزيع تمر عبر سيارات المنظومة الأمنية أو العسكرية التابعة للنظام، يقول متعاطون وشهود عيان إنها سيارات عسكرية “دفع رباعي” حديثة مع مهمة أمنية تمنحها حرية المرور على الحواجز دون تفتيش مع أربع إلى خمس عناصر يحملون بطاقات أمنية ويقومون بجولة مرة على الأقل كل أسبوع.

تشمل جولتهم الوقوف قرب مقرات رئيسية لمجموعات عسكرية في كل قطاع من درعا والقنيطرة، وتبين بالاعتماد على شهادات متعاطين أن تلك المقرات تعتبر مركز توزيع من المستوى المتوسط، بحيث يغطي كل قطاع تاجران أو أكثر، ثم يتكفل المروجون بجلب البضاعة إلى قراهم ومدنهم ونقلها داخل القطاع باستخدام هوياتهم العسكرية، كما يؤكد لنا أحمد، أحد عناصر الفرقة الرابعة التابعة للنظام في ريف درعا الغربي.

ورصد تجمع أحرار حوران طرقاً أخرى يعمد إليها مروّجون لا يملكون بطاقات أمنية كالدراجات النارية والاعتماد على طرق فرعية يعرفونها كونهم من أبناء المنطقة، كذلك الأليات الزراعية أو مع النساء.

ويباع الكبتاجون بطريقتين، أولاهما عن طريق البيع لمجموعات يتفق أشخاصها فيما بينهم على شراء كمية كبيرة من الكبتاجون وتوازعها، غالباً ما يكون أولئك من طلاب الجامعات والمدارس الثانوية كذلك عناصر في مجموعات مسلحة، وتعتبر هذه الطريقة الأكثر شيوعاً لما توفره من مبالغ مالية، إذ يبلغ سعر القرص الواحد من الكبتاجون نحو ألف وخمسمائة ليرة سورية وسطياً بالمفرّق، بينما يشترى المشد وهو لفظ يطلق على كيس يحوي مئتي قرص كبتاجون بخمسمائة ليرة للقرص الواحد.

أما الطريقة الأخرى فتكون عبر شراء فردي من منافذ البيع في بعض المنازل المعروفة في المنطقة، كذلك الصيدليات ومحلات البقالة.

تختلف أسعار الكبتاجون، بحسب التاجر والمنطقة، إذ تقدم بأسعار منخفضة للطلاب والعسكريين قد تصل إلى سعر 500 ليرة لكل حبة، مقابل السعر الغالب في السوق وهو 1500 ليرة للحبة ويتضاعف السعر في حال كانت المواد أصلية.

وتختلف الأنواع بين حبوب كبتاجون مخدرة يطلق عليها مسمّى “يا مسهرني”، وحبوب يطلق عليها اسم “فراولة” وذلك تبعاً للونها الزهري وتزيد تلك الحبوب من القدرة الجنسية، ويتداول المتعاطون حبوب الكبتاجون تحت مسميات أخرى نسبة للشكل أو اللون منها: رأس الحصان، الهلاليين، ليكزس، الملك، التاج جميعها بجودة ضعيفة، إذ تصدر الأنواع الأصلية إلى خارج سوريا لارتفاع ثمنها.

إمّا أن تُتاجر أو تُحارب:
يروي “أحمد” وهو مقاتل سابق مع فصائل المعارضة تعاقد مع الفرقة الرابعة التابعة لقوات النظام في ريف درعا الغربي بعد التسويات “كان سبب انضمامي الأساسي للحصول على الحبوب المخدرة فأذهب على دراجتي النارية عبر الحواجز المنتشرة في المنطقة إلى بلدة خراب الشحم لأحد المقرات وأقوم بشراء كمية من الكبتاجون لي ولأصدقائي بسعر خاص للعسكريين”.

يتابع أحمد “طريق العودة للمنزل يكون بالمرور على الحواجز دون تفتيش أو تدقيق باستخدام الهوية العسكرية، وحتى إنّنا في بعض الأحيان نحصل على الحبوب من زملاء لنا على الحواجز”.

يؤكد “أحمد” أن ضباطاً رفيعي المستوى بالفرقة يعلمون بشأن الانتشار الكبير بين مقاتليهم من أبناء المنطقة، كما أشار إلى اشتراك كبار الضباط بالفرقة فيها من خلال علاقتهم مع المهرّبين للحبوب المخدّرة باتجاه الأردن، وتقديم الدعم والحماية لهم في قطاع عمله في ريف درعا الغربي.

ويروي “مهران” أحد قادة مجموعات المعارضة سابقاً والذي رفض الانضمام إلى قوات النظام بعد التسوية واحتفظ مع مجموعته بسلاحهم الفردي أن عناصر من درعا البلد يتبعون لمجموعة وسيم مسالمة، قائد “لواء درع الوطن” التابع للحرس الثوري الإيراني، عرضوا على أحد أفراد مجموعته السابقة شراء سلاحه الفردي بضعف الثمن بشرط شرائه حبوباً مخدرة وحشيشاً ومواد أخرى وهو يقوم ببيعها واستعادة نقوده، وأشار أن هذا شكل من أشكال توريط من يرفض الارتباط معهم من خلال استغلال حاجتهم المادية كونهم بلا عمل منذ التسوية ومهدّدين بالاعتقال ومتمركزين في مناطق سكنهم.

ويصف أن دخول سوق العمل بالمخدرات ولو لمرة واحدة سيخلق قيودًا اجتماعية تمنعه من العودة والانخراط بالمجتمع كما كان قبلها، وأن قوات النظام ستجد تهمة ومبرر لاعتقاله بعيدًا عن ضمانات التسوية التي تعهد الجانب الروسي بتطبيقها في الجنوب، إضافة إلى خسارة سلاحه الذي يشكل عائق من اعتقاله ويمنع قوات النظام والمليشيات من دخول المناطق والأحياء التي يقطنونها ما يجعله ضعيف ومجبر على طلب كميات جديدة والانخراط أو التعاون معهم.

درعا ليست على خارطة وزارة الداخلية السورية:
بتتبع تجمع أحرار حوران لموقع وزارة الداخلية السورية الرسمي عبر الويب خلال العام 2020 كاملاً فيما يخص قضايا الاتجار بالكبتاجون لا يوجد أي ذكر لمحافظتي درعا والقنيطرة.

وكانت وزارة الداخلية قد أعلنت عبر معرفها الرسمي عن مصادرة 8375377 قرصاً من الكبتاجون خلال ثمانية أشهر منذ مطلع العام الحالي وحتى منتصف آب الماضي.

ويوضح الرسم البياني الضبوط وعدد الأقراص والمحافظات التي تم الإعلان فيها من قبل وزارة الداخلية عن جرائم الاتجار بالكبتاجون والتي جرى خلالها مصادرة كميات من الحبوب المخدرة من آب/2019 وحتى آب/2020، وتمثل دمشق وريفها أكثر هذه المناطق التي تم ذكرها في بيانات الوزارة.

مصادرة الكبتاجون من قبل النظام السوري

من محطة مياه إلى مصنع كبتاجون:
على طرف وادي الزيدي بالقرب من قرية خراب الشحم والحدود الأردنية تقع محطة تحلية المياه التي توقفت عن العمل منذ العام 2012 بسبب المعارك الدائرة في المنطقة، لتتحول بعد التسويات إلى معمل لصناعة حبوب الكبتاجون.

يمنح الموقع الطرفي النائي للمحطة وبُعده عن المنازل السكنيّة خصوصية في اختيار المكان وتحويله إلى مصنع للمواد المخدّرة، ويحيط بالمحطة بحسب من تحدثنا معهم جنودًا يرتدون بزّات عسكرية مموّهة ويحملون أسلحة فردية ويضعون على أكتافهم لصاقات سوداء مكتوب عليها بالأحمر “الفرقة الرابعة” ينتشرون في المكان.

ويروي مزارعون في المنطقة لتجمع أحرار حوران إن هؤلاء العناصر والذين يتبعون للواء 42 من الفرقة الرابعة بقيادة العميد غياث دلّة يحمون المكان، ويمنعون المزارعين الذين تتاخم أراضيهم محطة المياه من الوصول إليها.

ويقول من تحدثنا معهم من أبناء المنطقة أن قرية خراب الشحم تحوّلت إلى مركز ترويج كبير لهذا النوع من الحبوب، إذ يعمل في بيعها عدد من سكان القرية التي كانت سابقًا مركزًا للتهريب لقربها من الحدود الأردنية.

الكبتاجون بديلاً عن النفايات:
جنوب درعا البلد بنحو خمسة كيلو مترات، تم قياس المسافة بخاصية غوغل إيرث، وعلى بعد أمتار قليلة من الحدود الأردنية، في منطقة تخلو من البيوت السكنية وتحيط بها التلال يقع مصنع للكبتاجون تم رصده من قبل فريق التحقيق.

يقول أحد الناشطين من أبناء المنطقة لتجمع أحرار حوران، أيّدت كلامه شهادات أخرى لسكان محليين في درعا البلد، أن هذا المكان كان في السابق عبارة عن مكب نفايات حتى بداية الثورة، ويصفونه بما يشبه “الحفرة الكبيرة” تتوزع بالقرب منها غرفًا صغيرة الحجم، إضافة لمعدات تكرير النفايات، ومستودع على شكل “هنقار” اسمنتي، توضح ذلك الصور الملتقطة من غوغل للمكان.

مع بداية الثورة تحول إلى مقر عسكري لفصائل الجيش الحر، ويقول الناشط إنه كان يضم خنادق تم حفرها في المكان لتخزين الأسلحة، ومع بداية التسويات تم تحويل المكان إلى مصنع للكبتاجون يقوم عليه القيادي المدعو “مصطفى المسالمة” الذي انضم إلى الأمن العسكري التابع للنظام عقب التسويات، إذ كان يشغل في السابق قائداً لواحدة من كتائب الجيش الحر.

الطريق إلى المصنع، مكب النفايات السابق، يزدحم بسيارات دفع رباعية مفيّمة، زجاجها مظلل باللون الأسود، تعود بحسب الأهالي، إلى عناصر يتبعون للمسالمة، وأخرى لقيادات من حزب الله يزورن المكان بشكل دوري أسبوعيًا، ولا تخضع سياراتهم للتفتيش.

فيزا الكبتاجون:
في الأول من تموز الماضي ضبطت الشرطة الإيطالية نحو 85 مليون قرصًا من الأمفيتامين قالت إنها قادمة من سوريا، سبق ذلك مصادرة اليونان لـ 33 مليون حبة في ثلاث حاويات سورية، وكذلك 35 مليون حبة في الإمارات عبر ميناء اللاذقية السوري، إضافة لشحنات تم ضبطها في مصر والسعودية وغيرها من البلدان العربية وتشير أصابع الاتهام إلى حزب الله اللبناني بحسب تقرير واشنطن بوست.

وجاء في التقرير الصادر في آب/أغسطس من هذا العام أن “مسؤولون أميركيون وشرق أوسطيون إن أحدث قضايا المخدرات تشير إلى وجود تعاون بين مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة ، بما في ذلك رجال الأعمال السوريون المرتبطون بحكومة الأسد وكذلك عائلات الجريمة المنظمة. وقال المسؤولون عن تنسيق الخدمات اللوجستية وتقاسم الأرباح هم عناصر من حزب الله، بدعم من الحرس الثوري الإسلامي الإيراني. ومع اندلاع الحرب في سوريا، انتقلت بعض منشآت تصنيع الكبتاجون إلى سوريا، حيث يمكن أن تعمل دون تهديد بتدخل وكالات إنفاذ القانون اللبنانية أو الدولية”.

ومنذ أيّار 2019 وحتى حزيران 2020 ضبط حرس الحدود الأردني “٥.٩٤٥٠٠٠” حبة كبتاجون قادمة من سوريا، وفق ما أعلن الأردن عن ذلك.

“جيل الكبتاجون”:
يقول د. نواف الصفدي “إن الضرر لن يقتصر على الجانب الفيزيائي للمتعاطين بل سيشمل النمط السلوكي والقيمي لديهم، بسبب ضعف الإدراك ما يؤدي إلى انحراف سلوكي يتمثل في اللجوء إلى العنف والاجرام للحصول على متطلباتهم من الحبوب المخدرة، ما يجعل الشباب فريسة سهلة للمنظومات العسكرية غير القانونية التي تبحث عن مجندين على المستوى المحلي يتبعون الأوامر دون تفكير لتنفيذ مشاريعها أو أجنداتها داخل المنطقة”.

تتضاعف أعداد المتعاطين للحبوب المخدرة في مناطق سوريا كافة، وتشير تقارير إلى انتشاره في المدن الرئيسية والقرى والأرياف، دون تطبيق للعقوبات من جميع الجهات القانونية في سوريا، والتي تصل بحسب المادة 43 من قانون المخدرات السوري في مناطق النظام للمتعاطي بالاعتقال المؤقت بين (3 – 5 سنوات) والغرامة المالية بين (100 – 500 ألف ليرة سورية)، في حين تتضاعف هذه العقوبة عند المتاجرين بالمواد المخدرة والتي تصل إلى السجن المؤبد والغرامة المالية من (مليون إلى خمسة ملايين ليرة سورية) وقد تصل عقوبة مهرب المخدرات ومصنعها وزارعها بقصد الاتجار إلى الإعدام، بحسب المادة 45 من قانون المخدرات السوري.

يقول أشخاص تحدثنا معهم من المتعاطين، إنه لو طبق القانون “كنا جميعاً الآن في السجن أو في مصحات ليس لها وجود”، وكذلك “لأعدم مئات التجار الذين ما يزالون يمرون في كل يوم من أمامنا بسياراتهم رباعية الدفع التي ترفع أعلاماً تدل على انتمائهم للقوى الأمنية وحزب الله”.

أنجز هذا التحقيق من قبل فريق العمل في تجمع أحرار حوران (عماد البصيري، عقبة محمد، جرافيك: محمد أبو المجد، عبيدة عمرو) وبشراكة فاعلة من قبل جمعية سورية ديمقراطية 33 وبدعم من صندوق المنح الصغيرة لبرنامج الإنتاج الإعلامي المشترك بين المجتمع المدني والإعلام السوري، التابع لمنظمة Free Press Unlimited.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى